ما هو معنى الآيات { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } (1) { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (2) { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } (3) { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } (4) فلقد سمعت بعض أهل العلم يقول: إن معنى هذه الآيات السالفة الذكر أن الله سبحانه أعطى الإنسان مشيئة ثم تركه يختار لنفسه ما يشاء ولم يكن لله نعمة وتوفيق خص بهما من آمن، وخذلان خص به من كفر فهل هذا القول موافق لقول أهل السنة والجماعة ؟ ما معنى: { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } (5) وغيرها من الآيات التي توضح أن الله لا يظلم عباده شيئا، ولقد سمعت بعض أهل العلم يفسر هذه الآيات بمعنى أن الله سبحانه عادل فلا يمكن أن يجعل أحدا من الناس كافرا ثم يعذبه على كفره، بل الإنسان هو الذي يبدأ في الكفر والله يزيده في كفره، ولا يمكن أن يبتدئ الله أحدا بالضلال، فهل هذا المعنى والتفسير للظلم المنفي عن الله صحيح؟ لقد قرأت ما كتبه ابن حزم الظاهري في القدر في كتابه [الملل والنحل]، فهل ما قرره هو مذهب أهل السنة والجماعة أم مذهب الجبرية ؟ ج أولا يجب على المسلم أن يؤمن بالقدر خيره وشره، __________ (1) سورة التكوير الآية 28 (2) سورة التكوير الآية 29 (3) سورة المدثر الآية 55 (4) سورة المدثر الآية 56 (5) سورة الكهف الآية 49 وسبق أن صدر منا فتوى في معنى القدر برقم 4088 هذا نصها ما معنى القدر مع تفصيل شامل؟ (معناه أن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء كلها قبل وجودها وكتبها عنده وشاء ما وجد منها وخلق ما أراد خلقه، وهذه هي مراتب القدر الأربع التي يجب الإيمان بها، ولا يكون العبد مؤمنا بالقدر على الكمال حتى يكون مؤمنا بها، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب جبريل لما سأله عن الإيمان قال « أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره » (1) رواه مسلم في صحيحه وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت أنه قال له « إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تؤمن بالقدر وتعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك » (2) الحديث، وقد أوضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [العقيدة الواسطية] نوصيك بمراجعتها وحفظها وفتوى أخرى في معنى التسيير والتخيير برقم 4513 هذا نصها (الإنسان مخير ومسير، أما كونه مخيرا فلأن الله سبحانه أعطاه عقلا وسمعا وبصرا وإرادة فهو يعرف بذلك الخير من الشر والنافع من الضار ويختار ما يناسبه، وبذلك تعلقت به التكاليف من الأمر والنهي واستحق الثواب على طاعة الله ورسوله والعقاب على معصية الله ورسوله وأما كونه مسيرا فلأنه لا يخرج بأفعاله وأقواله __________ (1) صحيح مسلم الإيمان (8),سنن الترمذي الإيمان (2610),سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990),سنن أبو داود السنة (4695),سنن ابن ماجه المقدمة (63),مسند أحمد بن حنبل (1/53). (2) سنن الترمذي القدر (2155),سنن أبو داود السنة (4700). عن قدر الله ومشيئته، كما قال سبحانه { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } (1) وقال سبحانه: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } (2) { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (3) وقال سبحانه: { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } (4) الآية، وفي الباب آيات كثيرة وأحاديث صحيحة، كلها تدل على ما ذكرنا لمن تأمل الكتاب والسنة ثانيا تفسر الآيات المذكورة في السؤال وما ورد في معناها أن كل شيء يجري بقدر الله ومشيئته، ومشيئته نافذة لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن، وسبق بيان ذلك في الفتوى آنفا، وما ذكرنا هو قول أهل السنة والجماعة ، وما ذكر في السؤال من القول بنفي القدر مخالف لما هم عليه ثالثا الذي دلت عليه الأدلة من القرآن والسنة من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد يقتضي قولا وسطا بين قولي القدرية والجبرية ، فليس ما كان من بني آدم ظلما وقبيحا يكون منه تعالى ظلما وقبيحا كما تقوله المجبرة القدرية والقدرية النفاة ، فإن ذلك تمثيل لله بخلقه وقياس له عليهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، قال تعالى { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } (5) وقال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (6) __________ (1) سورة الحديد الآية 22 (2) سورة التكوير الآية 28 (3) سورة التكوير الآية 29 (4) سورة يونس الآية 22 (5) سورة النحل الآية 74 (6) سورة الشورى الآية 11 رابعا مما تقدم يتضح لك مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وما سواه باطل ونوصيك بمراجعة [شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل] للعلامة ابن القيم رحمه الله، فإنه مفيد جدا وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم